التوبة والمغفرة بعد الحج
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الاخوة المؤمنون :
فها نحن وقد قضى كثيرُ من الحجاج مناسكهم وشعائرهم ، ويتم بقيتهم شعائر الحج في هذا اليوم ؛ لعل الله عز وجل أن يكون قد يقبل منهم حجهم وغفر لهم ذنوبهم .
ونحن - أيها الأحبة الكرام - في هذا الموسم العظيم من مواسم المغفرة الغامرة ، والرحمة الشاملة ، نتذكر رحمة الله سبحانه وتعالى علينا ؛ بما جعل من أسباب المغفرة المتعاقبة في الأيام والليالي ؛ بل وفي كل يومِ وليلة ، بل في كل عملِ أو سببِ من الأسباب التي قدرها وجعلها للمغفرة ؛ لندرك عظيم رحمة الله سبحانه وتعالى ، ولنلمس عظمة جوده وعطائه وسعة رحمته جل وعلا .
وإذا تأمل العبد فإنه لا بد له أن يجمع بين فهم المغفرة وأسبابها وبين دعوة الله سبحانه وتعالى للعباد إلى الطاعة والحذر من المعاصي والتوقي من المخالفات ، وما ساقه الله - جل وعلا - من الوعيد على الذنوب ، ومن العقاب عند المخالفة ؛ فإنه سبحانه وتعالى قد ساق عباده إليه بالترغيب والترهيب ، تطمع نفوسهم في رحمته ، وتطمح قلوبهم في مغفرته ، ويسوقهم ذلك إلى دوام الاستغفار والتوبة والإنابة .
ثم تخشى قلوبهم وتجفل نفوسهم مما أسرفوا على أنفسهم من معصية الله أو ما فرطوا فيه في جنب الله فيخشون عذابه فما يزالون في ترغيبِ يدفعهم إلى العمل وترهيبِ يدعوهم إلى الاستغفار .
وهذا هو حال المؤمن يمضي إلى الله عز وجل بجناحي الخوف والرجاء ، والرغبة والرهبة .. إما ركون إلى رغبةِ ؛ فإن ذلك أمل مغرور ، وإن ادعاء أو اكتفاء بذكر مغفرة الله - جل وعلا - دون اليقين واستحضار عقابه وشدة عذابه ليس من شأن المؤمن ، ولا من دأبه ، ولا من فقهه ، ولا من علمه ، وإما يأسُ أو قنوطُ من رحمة الله ؛ فإن ذلك شأن أهل الابتداع الذين أيسوا الناس وقنطوهم من رحمة الله ومنعوا من استحقاق مغفرة الله .
أما المؤمن الحق والمسلم الصادق ؛ فإنه يدرك الحقيقة الإسلامية الإيمانية في أنه لا بد له إذا أراد الرحمة أن يسعى في العمل ، وأن يبذل جهده في الطاعات ، وإذا أراد إقالة العثرة ، ومغفرة الذنب ، فلا بد أن يبادر بالتوبة والإنابة والاستغفار والتضرع والدعاء ، فما يزال في عملٍ يحصل به الأجر الذي يتعرض به لرحمة الله ، وما يزال في استغفارِ وتوبةِ تمحى بها ذنوبه ويحط به عنه من خطاياه .
وما يزال كذلك حتى إذا دنى أجله زاد في الله عز وجل رجائه وعظم فيه حسن ظنه ، وصدق فيه قول رسول الهدى عليه الصلاة والسلام : ( من أحب لقاء الله أحب الله لقائه ) .
ومن هنا - أيها الأحبة الكرام - ونحن في موسم المغفرة لمن حج فقد وعده الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم : ( من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) .
ومن لم يحج ؛ فإن الأيام الفاضلة كانات موسماَ للخير ومضاعفةَ للأجور والثواب وكان يوم عرفة وصومه تكفيراَ لذنوبه سنةَ ماضيةَ وسنةِ قادمة ، ولا يتعاضمن أحدُ سعة مغفرة الله عز وجل ؛ فإن هذا جهل من العبد أو اجتراءَ على مقام الله عز وجل .
فهو سبحانه وتعالى : { لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون }.
هو الذي يغفر كيف يشاء ويحط الذنوب سبحانه وتعالى متى شاء لا يتحكم أحدُ في أمر الله ولا في رحمته ولا يحد أحدُ من مغفرته بل إن الله عز وجل جعل المتعرض لذلك متعرضُ لأشد العقوبة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك الرجل من بني إسرائيل الذي كان عابداً ، وكان له أخ عاصٍ ، ثم قال له في آخر الأمر : ( والله إن الله لا يغفر لك ) .
فقبض الله أرواحهما وأمر بالعاصي إلى الجنة ؛ لأنه غفر له ورحمه وأمر بالطائعي إلى النار ؛ لأنه قال كما ورد في الحديث : ( من ذا الذي يتألى علي ) ؛ أي من الذي يعترض أو يحكم في أمر الله وفيما هو من حق الله سبحانه وتعالى .
ومن هنا ونحن في موسم المغفرة الذي نرجو الله عز وجل أن يكون شملنا بها ، وحط بها خطايانا ، ومحى به سالف ذنوبنا ، وجدد بها لنا صفحة جديدة ، نبدأها بعهدٍ وثيقٍ في طاعةٍ دائمةٍ ، وتوقٍ حذرٍ من كل معصيةٍ وكل مخالفةٍ لأمره جل وعلا .
ونحن في هذا الموسم لا بد أن درك ما الذي ينبغي لنا ونحن قد تعرضنا لنفحات الله ، وقد رفعنا الأكف طلباً لمغفرة الله ، وقد ذرفنا الدموع ندماً على ما سلف من تقصيرٍ أو تفريطٍ في جنب الله ، أو اعتداءٍ على حرمات
الله .
استمع أخي إلى قول الحق جل وعلا : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم } .
وهذه آيةُ عظيمة فيها وجوه عديدةُ لإدراك مغفرة الله عز وجل ، وقربها من عباده ومنته سبحانه وتعالى عليهم
بها .
فأول ذلك ( أنه ناداهم بوصف العبودية ) ؛ ليدل على انهم ما داموا عابدين لله عز وجل ؛ فإنهم بإذن الله عز وجل متعرضون لرحمته ، بل إن الآية تشمل الكفار وعبوديتهم بمعنى خضوعهم لأمر الله عز وجل في مجريات خلقهم وحياتهم ، ومجريات الكون وأحداثه فيما حولهم ؛ لأنها قد صح عند البخاري من حديث ابن عباسٍ
أنه قال : " إن أقواماً من أهل الشرك قتلوا ، فأكثروا وزنوا فأكثروا ، وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا له إن الذي تقول وتدعوا إليه لحسن ، ولكن ما عسى أن نفعل بما فعلناه فنزل قول الله عز وجل :
{ قل يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم } " .
ونزل أيضاً قول الله سبحانه وتعالى الوارد في سياق آيات عباد الرحمن عدم مغفرة الشرك ، ومغفرة الذنوب والخطايا الأخرى .
فالذي يتأمل في هذا النص يجد أن العباد هنا مشمولون جميعا ، ثم أيضاً الإضافة { يا عبادي } أضافهم الله عز وجل له ليكون ذلك أدعى إلى قربهم من رحمته ومغفرته ، إذا تركوا الكفر ودخلوا في الإسلام ؛ فإنه يجب ما قبله ، وإذا تخلوا عن المعصية ولجوا إلى المغفرة ؛ فإنها تمحوا الذنوب بإذن الله عز وجل : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } .
وقوله عز وجل : { أسرفوا على أنفسهم } بيانُ أن الضرر من المعصية إنما يقع عليهم ، وأن أثر الذنب إنما هو ضرر عليهم ، والله عز وجل لا تضره معصية العاصيين ، ولا تنفعه طاعة الطائعين .
ومع أنهم الذين أخطأوا في حق أنفسهم ، ومع أنهم هم الذين أصابتهم بلايا الذنوب ، ورزايا المعاصي والآثام ؛ فإنه سبحانه وتعالى يدعوهم للاستغفار ليغفر لهم ، وإلى التوبة ليتوب عليهم : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } .
وهذا أيضاً وجه من وجوه فتح أبواب الرحمة والمغفرة ؛ حتى لا يخامر قلبٌ يأس ولا قنوط من رحمة الله .
كافرُ مشركُ أسلم ؛ فإنه بإذن الله عز وجل يمحى ذنبه وتطوى صحيفته الماضية بل كما قال عز وجل :
{ يبدّل الله سيئاتهم حسنات } .. { لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً } .
وقال هنا أهل التفسير :
" التأكيد ثم ذكر لفظ الجلالة في مقام الضرير أي أنه لم يقل ( إنه يغفر الذنوب ) ، بل قال : { إن الله } ، ويغفر بصيغة المضارع المستمر - أي أنه يغفر دائماً وأبداً لكل من استغفره وتاب إليه - ثم قال : { الذنوب } أي لاستغراقها أي كل أنواعها وكل أشكالها ، ماضيها وحاضرها ، صغيرها وكبيرها إلا الشرك .. كما ورد بنص القرآن ، وبنص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم تأكيدٌ لشمول المغفرة بقوله : { إن الله يغفر الذنوب جميعاً } ، ثم تأكيدٌ آخر : { إنه هو الغفور الرحيم } وهي صيغة حصرٍ ، وصيغة مبالغةٍ في اسم { الغفور } ، وصيغةُ إضافية للرحمة التي تبين أن الله سبحانه وتعالى قد يهب من لا يستحق المغفرة ؛ لأنه سبحانه وتعالى رحيمٌ بعباده .
فهذه آيةُ من أعظم آيات الرجاء ، وأوسع آيات المغفرة التي لا تدع لأحدٍ عذراً أن يقبل على الله ، ولا تدع لأحدٍ طريقاً إلى نفسه أن تقعده عن استغفار الله مهما عظم ذنبه ، ومهما كبر جرمه ؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد قال هذا في هذه الآية العظيمة ، ولكن ما الذي بعدها - أيها الأحبة - وما الذي جاء في أعقابها مباشرةً ؛ حتى ندرك أننا لكي نفقه المغفرة وننتفع بها لا بد أن نكمل المنهج ، وأن نعرف المطلوب منا كاملاً حيث قال جل وعلا بعد هذه الآية مباشرة : { وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون } .
فالاستغفار والتوبة لا بد أن يصحبه بعد ذلك عملٌ يبدأ بالإنابة إلى الله بالرجوع إليه بالرجوع إلى طاعته بالرجوع إلى منهجه والتمسك بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .
إن استغفاراً بالسان وحده لا يكفي ، وإن استغفاراً والعبد ما زال غارقاً في المعاصي والذنوب ، ومصراً على الاستمرار فيها أو باقٍ في بيئتها وبين من يدعونه إليها لا يكون ذلك على الكمال والتمام ، ولا يكون قد فقه ولا تعرض التعرض الصحيح لمغفرة الله ورحمته حتى يحقق هذا : { وأنيبوا إلى ربكم } .
ارجعوا إلى الله واصطلحوا معه ، وكونوا بحيث يراكم حيث أمركم ، ويفتقدكم حيث نهاكم .. كونوا بتقوى الله عز وجل تأخذون بأمره ، وتجتنبون نهيه سبحانه وتعالى وأسلموا له .
وهذا الشطر من الآية عظيمُ أيها الحبة { أسلموا له } أي استسلموا له سبحانه وتعالى ، وأسلموا قياده لأمره ونهيه ؛ فإنه لا رأي ولا تقديم ولا تأخير ولا محبة ولا بغض إلا في موافقة أمر الله سبحانه وتعالى .
المسلم الصادق مستسلم ليس له حول ولا طول ، ولا رأيٌ ولا شيءٌ إذا جاء أمر الله عز وجل وإذا استمع إلى نداء الحق سبحنه وتعالى .
فينبغي لنا أن نحقق معنى الإسلام الذي درسه هو هذا الحج الأعظم في سيرة إبراهيم عليه السلام عندما ترك زوجه ورضيعه ثم قفل راجعاً فقالت له هاجر : آالله أمرك بهذا ؟! قال : نعم ، قالت : إذاً فلن يضيعنا .. أسرة استسلمت لأمر الله وأسلمت قيادها لله .
فيسر الله جل وعلا لها وحقق لها خير الدنيا وفلاح الآخرة بإذن الله .
ولما بلغ إسماعيل السعي قال { إني أرى في المنام أني أذبحك قال يا أبتي افعل ما تأمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين } .
هؤلاء المثل الأعلى من سيرة الأنبياء في الإستسلام لأمر الله حتى في أشد الأمور وأصعبها وأثقلها على النفس ، ومع ذلك مضى إبراهيم وإسماعيل عليها السلام مستسلمين لأمر الله : { فلما أسلما وتله للجبين * وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين * إن هذا لهو البلاء العظيم * وفديناه بذبحٍ عظيم } .
هكذا عندما استسلم جاء الفرج وجاء الخير وفتحت الأبواب وعمر البيت وضل دعاء إبراهيم يتحقق :
{ ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرعٍ عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدةً من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون } .
عندما تسلم لله عز وجل ، وتستسلم لأمره ، ويكون قيادك طوعا أمر الله عز وجل ، فحينئذٍ يسخّر الله لك ، وييسر الله لك ، ويوفقك الله عز وجل ، ويفتح لك مغاليق الأبواب ويذلل لك كل الصعاب بإذنه سبحانه وتعالى : { وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون } .
والوعد لابد أن يكون مع الوعيد والوعيد ، لا بد أن يأتي مع الوعد لئلا تركن النفوس إلى الكسل ، وإلى إسرافٍ في الظن في غير موقعه .
( كذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل ) .
لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل { إن الله غفور رحيم } وكذلك { إن الله شديد العقاب } .
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى : { واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتةً وأنتم لا تشعرون } .
فالمسألة - أيضاً - تأكيدٌ على أن استحقاق المغفرة ، إنما لمن يفقه ويعلم ما الذي ينبغي أن يكون في أعقاب كل توبة وفي أعقاب كل استغفار : { واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } .. وهو القرآن اتبعوا أوامره ونواهي ، وسيروا في ظلال أحكامه ، والتزموا آدابه ، وتخلقوا بأخلاقه ذلكم هو الذي يكمل تمام نعمة الله ورحمة الله عليكم بالمغفرة والتهديد والتنبيه بعد ذلك أن من لم يأخذ بهذا سيندم في وقتٍ لا ينفع فيه الندم ، وسيقول كما قال الله عز وجل مخبراً لنا عن هذا الحال : { أن تقول نفسٌ يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين * أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرةً فأكون من المحسنين } .
ولا ينفع ذلك ، وإذاً ونحن في موسم المغفرة لابد من إنابةٍ صادقة ، ورجوعٍ حقيقيٍ إلى الله عز وجل ، ولا بد من استسلامٍ تامٍ لله ، ولأمره ونهيه ، ولا بد من اتباع صادق لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
وعلينا - أيها الأحبة الكرام - تجديد التوبة والاستغفار في كل حين وفي كل آنٍ ؛ فإن بعض الناس في مثل هذه المواسم يقول مستشعراً نعمة الله عز وجل : " قد غُفِر ذنبي بإذنه سبحانه وتعالى " فيسرف على نفسه ، ويبقى غافلاً ؛ حتى يمرّ وقتٌ طويل ليعاود الاستغفار ، أو ليعاود التوبة ، أو قد يكون بعد ذلك قد غرق بحيث لا يستطيع النجاة .. نسأل الله عز وجل السلامة .
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
انظر إلى هذه المراتب من تيقظ في أول الطريق ؛ فإن الأمر سهل ومن استدرك في البدايات ؛ فإنه يمكن إن شاء الله أن يصحح المسار إلى النهايات .
أما من أسرف على نفسه في المعصية ، ومن نام نوم الغفلة فيوشك أن لا يستيقظ إلا على نهاية الأجل .. نسأل الله عز وجل أن يعيذنا وإياكم من هذه الغفلة .
{ إن الذين اتقوا إذا مسهم طائفٌ من الشيطان } .
عند أول لحظة عند أول خاطرة : { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائفٌ من الشيطان تذكروا إذا هم مبصرون } .
فإذا لم يكن هذا انتقل إلى صورة أخرى : { كلا بل ران على قلوبهم } جاء الران ، وربما صار الأمر صعباً كما أخبر عليه الصلاة والسلام في حديث حذيفة ، يروى مرفوعاً وموقوفاً : ( نكت فيه نكتةً سوداء - أي القلب إذا عصى الله عز وجل - حتى يصبح أسوداً مرباداً كالكوزي مجخياً ، لا يعرف معروفاً ، ولا ينكر منكرا ) .
فإذا استمر الحال أكثر من ذلك جاء الوصف : { أم على قلوبٍ أقفالها } .
تطمس القلوب وتقفل وتنقبض ، ولا يكون لها كثير أملٍ ؛ لأنها تكون قد بلغت مبلغاً ربما إن لم يتداركها الله عز وجل برحمته لا تشرق فيها أنوار الإيمان من جديد ، ولا تعود بالتضرع أو الخشوع أو الإنابة أو الاعتراف بالذنب فتدارك ذلك ، ورسول الهدى صل الله عليه وسلم يقول آمراً أمته ومنبهاً لها أن تستغفر وتتوب ، ثم يضرب لها القدوة من نفسه ويقول : ( إني استغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة ) .. وفي بعض الروايات : ( مائة مرة ) .
فهذا الرسول الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يستغفر الله في يومه وليلته مائة مرة ! فكيف بحالنا أن لا نديم الاستغفار ! وأن لا نديم كل عملٍ من الأعمال التي ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام أو ورد في آيات القرآن أنها من أسباب المغفرة .
لا بد دائماً أن نتعرض للمغفرة بعمل أسبابها وأسبابها كثيرة ، وفضل الله عز وجل عظيم وقد جعل ذلك لنا في كل يومٍ ، وفي كل أسبوع وفي كل المواسم وفي كل الأعوام .. فهذا رسولنا عليه الصلاة والسلام يخبرنا : ( أن الله عز وجل إذا بقي الثلث الأخير من الليل ينزل إلى السماء الدنيا فيقول : هل من تائبٍ فأتوب عليه ؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له ؟ هل من سائلٍ فأعطيه ؟ وذلك الدهر كله ) .
فلا تكن في مثل هذه اللحظات من الغافلين - ولو دقائق معدودات - تذكر فيها ربك ، وتكون فيها من المستغفرين بالأسحار ، وفي يوم الجمعة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم : ( ساعةٌ لا يوافقها عبد مؤمن فيسأل الله شيئاً من خير الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إياه ) .
واختلف أهل العلم فيها ولكنها في يوم الجمعة وقال بعضهم مرجحاً : أنها في الساعة الأخيرة من نهار الجمعة قبل غروب الشمس .
وهذا فضل من الله عز وجل ينبغي أن لا نغفل عنه ، وأن لا نفتر عنه .. وأبوابُ كثيرة في حديث أنسٍ رضي الله عنه : ( من صلى صلاته ، ثم قال سبحان الله ثلاثاً وثلاثين ، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين ، والله أكبر ثلاثاً وثلاثين ، ثم ختم تمام المائة بقوله : لا إله إلى الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيءِ قدير ، غفرت له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر ) حديث صحيح عند البخاري من رواية أنس .
( غفرت له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر ) .. دقائق قلائل بعد الصلاة ، تسبح فيها وتستغفر ، ثم تدعو فتنال هذا الخير .. فما بالك مسرعٌ أو معرضٌ أو غافلٌ أو منتقلٌ مشدودٌ إلى الدنيا ؛ حتى كأنك ما شعرت ما صليت ولا عرفت .. ما قرأت ، ثم ما أسرع ما انفتلت وهربت وخرجت كأنك تفرّ من رحمة الله ، أو كأنك تبتعد عن أن تنالك مغفرة الله عز وجل !
وهذا أيضاً حديث عثمان رضي الله عنه - رواه الإمام أحمد والطبراني بسندٍ صحيح - : أنه كان في يومِ شديد البرد فجاء بماءِ باردِ في الوضوء فجعل يتوضأ ويسبغ وضوئه ، فقال له مولاه : ما لك ؟ فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما اسبغ عبد الوضوء إلا غفر له ما تقدم من ذنبه ) .
فرحمة الله عز وجل واسعة .
وهذا حديث أسماء بنت يزيد بن السكن : ( من ذب عن عرض أخيه بالغيبة كان حق على الله أن يعتقه من النار ) .
وهذه أحاديث كثيرة وأبواب من الخير عظيمة ، وفضائل من الأعمال جليلة وأكثرها - بحمد الله - سهل ميسور لمن كان قلبه حيٌ ، ولمن كان متذكراً ، ولمن كان معتنياً بنفسه ، حريصاً عليها .